بات
من المؤكد في ظل ما نتابعه بليبيا من تطورات، أن الأيام والأسابيع المقبلة
سوف تكون حبلى بتطورات دراماتيكية فيما يتعلق بمستقبل الجماعات الإسلامية
المنتشرة في هذا البلد. كما أضحى من شبه المؤكد بأن مصيرها لن يكون في كل
الأحوال مختلفا عن مصير أخواتها بمصر.. ومأتى هذا اليقين هو أن النّهج
المتغطرس والعسكري الذي تنتهجه هذه الجماعات العنفيّة كان سيُقَابَلُ حتما
بمثله.. وأن محاولات تهجين التجربة
الآسيوية ببلدان شمال أفريقيا قد أسهمت بشكل حاسم في تقريب أوان سقوط
جماعات الإسلام السياسي والجهادي وعلى رأسها جماعة الاخوان المسلمين وتنظيم
القاعدة وأخواتها.
![]() |
محمد لامين |
والحالة الليبية التي يرى البعض أنها متفردة من حيث
اختلاف ظروفها ورهاناتها ليست في الحقيقة سوى ساحة من ساحات الحلم
الإخواني التكفيري التوسعي، وميدانا من ميادين فصول صراعه لأجل الهيمنة على
العالم العربي باستخدام الأجندة الدينية التي تعتبر وصفة جاهزة لكل مشروع
تآمري طامع في السلطة متستّر بالدين.
لقد كانت جماعات الإسلام السياسي
بمختلف مسمّياتها تمثل عنصر اجتذاب عقائدي وديني بفعل خطابها الروحي المؤثر
ونفاذها إلى الوجدان الداخلي لهذه الشعوب التي كانت تشعر لسبب أو لآخر
بتغييب ومظلومية الدين وإقصائه من حياتها.. وتكرس لديها تدريجيا يقين بأن
الأنظمة القُطْرِيّة، بمعنى الدولة الوطنية، تخوض مواجهة خفيّة مع المعتقد
حينا، وتوظفه أحيانا أخرى. لكنها في كل الأحوال، لم تتصالح معه ولم تمنحه
الحيّز الذي يستحق والذي يحصِّن الشعوب ويعزز مناعتها ضدّ ما شاهدناه من
تطوّر في الخطاب الديني من الدعوة السلمية إلى المواجهة السياسية
والميدانية والعسكرية، كما حدث بدول ما يسمى بالربيع العربي.. ففي هذه
الدول اقتحمت الجماعات الدينية المشهد السياسي والأمني بشكل أتاح لها
السيطرة شبه المطلقة على الأمور، وأوصل بعضها إلى مواقع سيادية متقدمة
وقيادية في دول المنطقة وسط أجواء سياسية واقتصادية واجتماعية متوترة
ومشحونة ومنهارة أحيانا.. وهذا التوتر والانهيار في بعض الأحوال قد جعلا من
مواقع السلطة والبرلمانات والوزارات التي سيطر عليها الاسلامويون مقاعد
ملتهبة وكان من الطبيعي أن يخفقوا في أول اختبار من اختبارات الممارسة
السلمية للسلطة.
لم يكن هؤلاء مؤهلين لاستلام السلطة في بلدان تعطل
فيها الانتاج واجتاحتها الاضطرابات وغاب عنها السلم الاجتماعي فأصبحوا جزءا
من الصراع وطرفا في التصادم.. وافتقدت الشعوب وسط أزماتها الخطاب الدعوي
السلمي والاعتدال الذي ألِفَته في شريحتها المتدينة طوال أحقاب من
تاريخها.. ولم يكن الشكل الجديد الذي ظهرت عليه تيارات الاسلام السياسي بعد
وصول معظمها إلى الحكم ببلدانها سوى مرحلة تكتيك للايهام بالتعايش مع
الدولة الوطنية/غير الدينية بالضرورة، لأن هؤلاء كانوا يتحركون وفق أجندة
شمولية وإيقاع منسق في إطار أهداف التنظيمات الدولية الاخوانية والجهادية.
..ولاختلاف الظروف بين بلدان الربيع العربي، فقد رأينا ردة فعل اخوانية
وتكفيرية مختلفة إزاء ما حدث بمصر. وتباين السلوك السياسي للاسلامويين بين
الدهاء والانحناء للموجة في تونس، والتصعيد والانقلاب والسيطرة على المدن
ومفاصل الدولة كما حدث بليبيا واليمن.
لكن تشابه نتيجة المواجهة في كل
هذه البلدان لا يعكس حتميّة فشل محاولة الجماعات الاسلاموية في ممارسة
السلطة فحسب، بل ويثبت عجزها عن قيادة التحولات والتغيرات نحو نماذج جديدة
في الحكم السياسي والاقتصادي الرشيد والوفاق الاجتماعي المطلوب خلال فترات
ما بعد الصراع. فتسارع الأحداث الذي اجتاح دول المنطقة دفع هذه الجماعات
إلى الزّج بقياداتها ونُخَبِها نحو كراسي السلطة الشاغرة وهي بغبار السجن
ورطوبة الزنازين.. كان هؤلاء في حال تيه وضياع أمام العدسات يستغرقهم
الخيلاء وينهشهم الغرور ووهم التمكين، وتتملّكهم -بما بين أيديهم من أسلحة
وعتاد وأمكانيات مادية ومالية ولوجستية هائلة - روح الثأر والانتقام
والإخضاع ضد مجتمعات نبذتهم وعزلتهم وألقت بهم في السجون.. لذلك جاءت فترات
حكمهم القصيرة نسبيا مليئة بالاستئثار والتمييز والعزل و"استكراد"
الكفاءات و"التوجّس" من أهل الاختصاص والخبرات.
قلت أن النتيجة كانت
واحدة. وإذا كانت جماعات الإسلام السياسي قد خسرت موقعها بمصر، وصارت عبرة
لدول الجوار. فإنها كذلك قد سلكت خطوات الدهاء والخبث بتونس كي تصل في
النهاية إلى مصير مشابه!! إنها الحتمية، أو قل إنه القصاص الإلهي..
وهـَـاهِي تسير اليوم نحو خاتمة دامية بما كسبت وارتكبت في ليبيا.
الحقد الإخواني التكفيري على المجتمع في ليبيا يتخذ شكلا دمويا استبداديا
تمييزيا.. وشعور الحلف المصراتي الاخواني بقرب السقوط أحيى فيه عقلية هدم
المعبد على كل من بداخله، وهو ما لم يمارسه معمر القذافي أو أي نظام آخر
شهدته المنطقة.. وانتهاج سياسة الأرض المحروقة بالدول التي أخفق المتأسلمون
في حكمها يكشف حقيقة هؤلاء ووجههم الدّميم القبيح..
إن الحقد وحبّ
السلطة وعبادة الكرسي أمراض متأصلة في ذوات المتأسلمين الذين كان يفترضُ
بهم التوجه نحو عيادات إعادة التأهيل النفسي ومنح ذواتهم فسحة من الوقت
للتأقلم مع الحياة الطبيعية بعد مغادرة الزنازين وسقوط الأحكام والتتبعات
التي كانت منشورة ضدّهم.. لكن الشعوب "الطيبة" أوصلتهم إلى كراسي الحكم
الوثيرة بدل أسرّة العيادات النفسية ولا تهمّ الوسيلة.. فالدعم الشعبي
بالصمت أو التواطؤ أو الانخداع أو الاقتراع هو ما مكّن هؤلاء في رقاب
الشعوب والدول. والشعوب بالتالي تتحمل وزر هذا الأمر وعلى عاتقها تقع
مسؤولية معالجته..
إن صعود المتأسلمين في ليبيا كان تاريخيا وقياسيا
وسريعا وعنيفا.. وسقوطهم يحمل بدوره كل هذه المعاني.. ولن تخلو المواجهة مع
العدو التكفيري الارهابي في ليبيا من معاناة ودماء وضحايا سيقدّمها هذا
البلد المنكوب الذي سيدفع مرة أخرى ضريبة إسقاط الارهاب وتخليص المنطقة من
ويلاته.. فالجميع يعلم أن "الجانّ" قد تم إحضاره في ليبيا ولا بدّ من
"صرفه" من أرضها..
سوف يتحمّل الليبيون مقتضيات طرد عصابات الموت
وشراذم التكفير دفاعا عن إسلامهم الحقيقي الذي يعرفون، وبه يدينون..
وانتصارا لمجتمعهم المتسامح العفيف وموروثهم القيمي والأخلاقي.. وهم
مدعووّن في سبيل ذلك إلى الالتفاف حول ما تبقّى من مؤسسات سيادية وأعني
الجيش الليبي، ومن تحالف معه وانضوى تحت رايته من أفراد وطنيين وقبائل
وفصائل مقاومة، وأن يعي الجميع أهمية هذه اللحظة ووجوب تجاوز كل خلاف أو
انقسام يهدد جهد التحرير لأن الرهان اليوم رهان كل الوطن وكل الشعب بعيدا
عن الفئوية والعصبيات.. وما النصر إلا صبر ساعة..